سورة الأحزاب - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأحزاب)


        


قال أبيّ بن كعب رضي الله عنه لزرّ: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قال: ثلاثاً وسبعين. قال: فوالذي يحلف به أبيّ إن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول ولقد قرأنا منها آية الرجم (الشيخ والشيخة إذا زينا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم). أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن. وأما ما يحكى أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة رضي الله عنها فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.
{يا أيّها النّبيّ} وبالهمز: نافع أي يا أيها المخبر عنا المأمون على أسرارنا المبلغ خطابنا إلى أحبابنا. وإنما لم يقل (يا محمد) كما قال: {يا آدم} {يا موسى} تشريفاً له وتنويهاً بفضله، وتصريحه باسمه في قوله {محمد رسول الله} [الفتح: 29] ونحوه لتعليم الناس بأنه رسول الله {اتّق الله} اثبت على تقوى الله ودم عليه وازدد منه فهو باب لا يدرك مداه {ولا تطع الكافرين والمنافقين} ولا تساعدهم على شيء واحترس منهم فإنهم أعداء الله والمؤمنين. وروي أن أبا سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبا الأعور السلمي قدموا المدينة بعد قتال أحد فنزلوا على عبد الله بن أبيّ وأعطاهم النبي الأمان على أن يكلموه فقالوا: ارفض ذكر آلهتنا وقل إنها تنفع وتشفع، ووازرهم المنافقون على ذلك فهمّ المسلمون بقتلهم فنزلت. أي اتق الله في نقض العهد ولا تطع الكافرين من أهل مكة والمنافقين من أهل المدينة فيما طلبوا {إنّ الله كان عليماً} بخبث أعمالهم {حكيماً} في تأخير الأمر بقتالهم.
{واتّبع ما يوحى إليك من رّبّك} في الثبات على التقوى وترك طاعة الكافرين والمنافقين {إنّ الله} الذي يوحي إليك {كان بما تعملون خبيراً} أي لم يزل عالماً بأعمالهم وأعمالكم. وقيل: إنما جمع لأن المراد بقوله {اتبع} هو وأصحابه، وبالياء: أبو عمر وأي بما يعمل الكافرون والمنافقون من كيدهم لكم ومكرهم بكم {وتوكّل على الله} أسند أمرك إليه وكله إلى تدبيره {وكفى بالله وكيلاً} حافظاً موكولاً إليه كل أمر، وقال الزجاج: لفظه وإن كان لفظ الخبر فالمعنى اكتف بالله وكيلاً.
{مّا جعل الله لرجلٍ مّن قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم الائ تظاهرون منهنّ أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} أي ما جمع الله قلبين في جوف، ولا زوجية وأمومة في امرأة، ولا بنوة ودعوة في رجل. والمعنى أنه تعالى كما لم يجعل لإنسان قلبين لأنه لا يخلو إما أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر فعلاً من أفعال القلوب فأحدهما فضلة غير محتاج إليه، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة.
لم يحكم أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له، لأن الأم مخدومة والمرأة خادمة وبينهما منافاة، وأن يكون الرجل الواحد دعياً لرجل وابناً له لأن البنوة أصالة في النسب والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل. وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهبته له فطلبه أبوه وعمه فخير فاختار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعتقه وتبناه وكانوا يقولون (زيد بن محمد)، فلما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب وكانت تحت زيد قال المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه وهو ينهى عنه فأنزل الله هذه الآية، وقيل: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان قلب معكم وقلب مع أصحابه. وقيل: كان أبو معمر أحفظ العرب فقيل له (ذو القلبين) فأكذب الله قولهم وضربه مثلاً في الظهار والتبني. والتنكير في {رجل} وإدخال {من} الاستغراقية على {قلبين} وذكر الجوف للتأكيد. {اللائي} بياء بعد الهمزة حيث كان: كوفي وشامي، {اللاء} نافع ويعقوب وسهل وهي جمع. {التي تُظاهِرون} عاصم من ظاهر إذا قال لامرأته (أنت علي كظهر أمي) {تَظَاهَرون} علي وحمزة وخلف. {تَظَّاهرون} شامي من ظاهر بمعنى تظاهر. غيرهم {تظّهّرون} من اظّهّر بمعنى تظهر. وعُدي ب (من) لتضمنه معنى البعد لأنه كان طلاقاً في الجاهلية ونظيره (آلى من امرأته) لما ضمن معنى التباعد عدي ب (من) وإلا فآلى في أصله الذي هو معنى حلف وأقسم ليس هذا بحكمه. والدعي فعيل بمعنى مفعول وهو الذي يدعي ولداً، وجمع على أفعلاء شاذاً لأن بابه ما كان منه بمعنى فاعل كتقي وأتقياء وشقي وأشقياء ولا يكون ذلك في نحو (رمي) و(سميّ) للتشبيه اللفظي.
{ذلكم قولكم بأفواهكم} أي أن قولكم للزوجة هي أم وللدعي هو ابن قول تقولونه بألسنتكم لا حقيقة له إذ الابن يكون بالولادة وكذا الأم {والله يقول الحقّ} أي ما حق ظاهره وباطنه {وهو يهدى السّبيل} أي سبيل الحق. ثم قال ما هو الحق وهدى إلى ما هو سبيل الحق وهو قوله {ادعوهم لآبائهم هو أقسط} أعدل {عند الله} وبين أن دعاءهم لآبائهم هو أدخل الأمرين في القسط والعدل. وقيل: كان الرجل في الجاهلية إذا أعجبه ولد الرجل ضمه إلى نفسه وجعل له مثل نصيب الذكر من أولاده من ميراثه. وكان ينسب إليه فيقال فلان بن فلان. ثم انظر إلى فصاحة هذا الكلام حيث وصل الجملة الطلبية ثم فصل الخبرية عنها ووصل بينها، ثم فصل الاسمية عنها ووصل بينها ثم فصل بالطلبية {فإن لّم تعلموا آباءهم} فإن لم تعلموا لهم آباء تنسبونهم إليهم {فإخوانكم في الدّين ومواليكم} أي فهم إخوانكم في الدين وأولياؤكم في الدين فقولوا هذا أخي وهذا مولاي ويا أخي ويا مولاي، يريد الأخوة في الدين والولاية فيه.
{وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي لا إثم عليكم فيما فعلتموه من ذلك مخطئين جاهلين قبل ورود النهي {ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} ولكن الإثم عليكم فيما تعمدتموه بعد النهي. أولا إثم عليكم إذا قلتم لولد غيركم يا بني على سبيل الخطأ وسبق اللسان، ولكن إذا قلتموه متعمدين، و(ما) في موضع الجر عطف على (ما) الأولى، ويجوز أن يراد العفو عن الخطأ دون العمد على سبيل العموم ثم تناول لعمومه خطأ التبني وعمده. وإذا وجد التبني فإن كان المتبني مجهول النسب وأصغر سناً منه ثبت نسبه منه وعتق إن كان عبداً له، وإن كان أكبر سناً منه لم يثبت النسب وعتق عند أبي حنيفة رضي الله عنه، وأما المعروف النسب فلا يثبت نسبه بالتبني وعتق إن كان عبداً {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} لا يؤاخذكم بالخطأ ويقبل التوبة من المتعمد.
{النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي أحق بهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ عليهم من حكمها، فعليهم أن يبذلوها دونه ويجعلوها فداءه، أو هو أولى بهم أي أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم كقوله {بالمؤمنين رؤوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] وفي قراءة ابن مسعود {النبى أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ} وهو لهم، وقال مجاهد: كل نبي أبو أمته ولذلك صار المؤمنون إخوة لأن النبي صلى الله عليه وسلم أبوهم في الدين {وأزواجه أمهاتهم} في تحريم نكاحهن ووجوب تعظيمهن وهن فيما وراء ذلك كالإرث ونحوه كالأجنبيات ولهذا لم يتعد التحريم إلى بناتهن {وَأُوْلُواْ الأرحام} وذوو القرابات {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} في التوارث وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة ثم نسخ ذلك وجعل التوارث بحق القرابة {فِى كتاب الله} في حكمه وقضائه أو في اللوح المحفوظ أو فيما فرض الله {مِنَ المؤمنين والمهاجرين} يجوز أن يكون بياناً لأولي الأرحام أي الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضاً من الأجانب، وأن يكون لابتداء الغاية أي أولو الأرحام بحق القرابة أولى بالميراث من المؤمنين أي الأنصار بحق الولاية في الدين ومن المهاجرين بحق الهجرة {إِلاَّ أَن تَفْعَلُواْ إلى أَوْلِيَائِكُمْ مَّعْرُوفاً} الاستثناء من خلاف الجنس أي لكن فعلكم إلى أوليائكم معروفاً جائز وهو أن توصوا لمن أحببتم من هؤلاء بشيء فيكون ذلك بالوصية لا بالميراث. وعدي {تَفْعَلُواْ} ب {إلى} لأنه في معنى تسدوا والمراد بالأولياء المؤمنون والمهاجرون للولاية في الدين {كَانَ ذلك فِى الكتاب مَسْطُورًا} أي التوارث بالأرحام كان مسطوراً في اللوح.
{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ} واذكر حين أخذنا من النبيين ميثاقهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم {وَمِنْكَ} خصوصاً. وقدم رسول الله على نوح ومن بعده لأن هذا العطف لبيان فضيلة هؤلاء لأنهم أولو العزم وأصحاب الشرائع، فلما كان محمد صلى الله عليه وسلم أفضل هؤلاء قدم عليهم ولولا ذلك لقدم من قدمه زمانه {وَمِن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مّيثَاقًا غَلِيظاً} وثيقاً. وأعاد ذكر الميثاق لانضمام الوصف إليه وإنما فعلنا ذلك {لّيسئل} الله {الصادقين} أي الأنبياء {عَن صِدْقِهِمْ} عما قالوه لقومهم أو ليسأل المصدقين للأنبياء عن تصديقهم لأن من قال للصادق صدقت كان صادقاً في قوله، أو ليسأل الأنبياء ما الذي أجابتهم أممهم وهو كقوله {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ} [المائدة: 109] {وَأَعَدَّ للكافرين} بالرسل {عَذَاباً أَلِيماً} وهو عطف على {أَخَذْنَا} لأن المعنى أن الله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين وأعد للكافرين عذاباً أليماً، أو على ما دل عليه {لِّيَسْأَلَ الصادقين} كأنه قال: فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.


{ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} أي ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب وهو يوم الخندق وكان بعد حرب أحد بسنة {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} أي الأحزاب وهم: قريش وغطفان وقريظة والنضير {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً} أي الصبا. قال عليه السلام: «نصرت بالصبا وأهلكت عاد بالدبور» {وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} وهم الملائكة وكانوا ألفاً بعث الله عليهم صبا باردة في ليلة شاتية فأخصرتهم وأسفت التراب في وجوههم، وأمر الملائكة فقلعت الأوتاد وقطعت الأطناب وأطفأت النيران وأكفأت القدور وماجت الخيل بعضها في بعض وقذف في قلوبهم الرعب وكبرت الملائكة في جوانب عسكرهم فانهزموا من غير قتال. وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإشارة سلمان ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين فضرب معسكره والخندق بينه وبين القوم، وأمر بالذراري والنسوان فرفعوا في الآطام واشتد الخوف، وكانت قريش قد أقبلت في عشرة آلاف من الأحابيش وبني كنانة وأهل تهامة وقائدهم أبو سفيان، وخرج غطفان في ألف ومن تابعهم من أهل نجد وقائدهم عيينة بن حصن، وعامر بن الطفيل في هوازن وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى أنزل الله النصر {وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ} أي بعملكم أيها المؤمنون من التحصن بالخندق والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم {بَصِيراً} وبالياء، أبو عمرو أي بما يعمل الكفار من البغي والسعي في إطفاء نور الله.
{إِذْ جَاءوكُمْ} بدل من {إِذْ جَاءتْكُمْ} {مّن فَوْقِكُمْ} أي من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار} مالت عن سننها ومستوى نظرها حيرة، أو عدلت عن كل شيء فلم تلتفت إلا إلى عدوها لشدة الروع {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} الحنجرة رأس الغلصمة وهي منتهى الحلقوم، والحلقوم مدخل الطعام والشراب. قالوا: إذا انتفخت الرئة من شدة الفزع أو الغضب ربت وارتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة. وقيل: هو مثل في اضطراب القلوب وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة. رُوي أن المسلمين قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم. هل من شيء نقوله فقد بلغت القلوب الحناجر قال: «نعم قولوا اللهم استر عوراتنا وآمن روعاتنا» {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} خطاب للذين آمنوا ومنهم الثبت القلوب والأقدام والضعاف القلوب الذين هم على حرف والمنافقون، فظن الأولون بالله أنه يبتليهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال، وأما الآخرون فظنوا بالله ما حكى عنهم.
قرأ أبو عمرو وحمزة {الظنون} بغير ألف في الوصل والوقف وهو القياس، وبالألف فيهما: مدني وشامي وأبو بكر إجراء للوصل مجرى الوقف، وبالألف في الوقف: مكي وعلي وحفص، ومثله {الرسولا} و{السبيلا} زادوها في الفاصلة كما زادها في القافية. من قال:
أقلي اللوم عاذل والعتابا ***
وهن كلهن في الإمام بالألف {هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون} امتحنوا بالصبر على الإيمان {وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} وحركوا بالخوف تحريكاً بليغاً.
{وَإِذْ يَقُولُ المنافقون} عطف على الأول {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} قيل: هو وصف المنافقين بالواو كقوله:
إلى الملك القرم وابن الهمام *** وليث الكتيبة في المزدحم
وقيل: هم قوم لا بصيرة لهم في الدين كان المنافقون يستميلونهم بإدخال الشبه عليهم {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً} روي أن معتّب بن قشير حين رأى الأحزاب قال: يعدنا محمد فتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً ما هذا إلا وعد غرور {وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مّنْهُمْ} من المنافقين وهم عبد الله بن أبي وأصحابه {ياأهل يَثْرِبَ} هم أهل المدينة {لاَ مُقَامَ لَكُمْ} وبضم الميم: حفص أي لا قرار لكم ههنا ولا مكان تقومون فيه أو تقيمون {فارجعوا} عن الإيمان إلى الكفر أو من عسكر رسول الله إلى المدينة {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مّنْهُمُ النبى} أي بنو حارثة {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي ذات عورة {وَمَا هِىَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً} العورة الخلل والعورة ذات العورة وهي قراءة ابن عباس. يقال: عور المكان عوراً إذا بدا منه خلل يخاف منه العدو والسارق، ويجوز أن يكون عورة تخفيف عورة اعتذروا أن بيوتهم عرضة للعدو والسارق لأنها غير محصنة فاستأذنوه ليحصنوها ثم يرجعوا إليه فأكذبهم الله بأنهم لا يخافون ذلك وإنما يريدون الفرار من القتال {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ} المدينة أو بيوتهم من قولك (دخلت على فلاه داره) {مّنْ أَقْطَارِهَا} من جوانبها أي ولو دخلت هذه العساكر المتحزبة التي يفرون خوفاً منها مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلها وانثالت على أهاليهم وأولاهم ناهبين سابين {ثُمَّ سُئِلُواْ} عند ذلك القزع {الفتنة} أي الردة والرجعة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين {لآتَوْهَا} لأعطوها. {لأتَوْهَا} بلا مد: حجازي أي لجاءوها وفعلوها {وَمَا تَلَبَّثُواْ بِهَا} بإجابتها {إِلاَّ يَسِيراً} ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقف، أو ما لبثوا بالمدينة بعد ارتدادهم إلا يسيراً فإن الله يهلكهم، والمعنى أنهم يتعللون بإعوار بيوتهم ليفروا عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وعن مصافة الأحزاب الذين ملئوهم هولاً ورعباً، وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا عليهم أرضهم وديارهم وعرض عليهم الكفر، وقيل لهم كونوا على المسلمين لسارعوا إليه وما تعللوا بشيء وما ذلك إلا لمقتهم الإسلام وحبهم الكفر.
{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ} أي بنو حارثة من قبل الخندق أو من قبل نظرهم إلى الأحزاب {لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} منهزمين {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً} مطلوباً مقتضى حتى يوفى به.
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إِن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَوِ القتل وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} أي إن كان حضر أجلكم لم ينفعكم الفرار، وإن لم يحضر وفررتم لم تمتعوا في الدنيا إلا قليلاً وهو مدة أعماركم وذلك قليل. وعن بعض المروانية أنه مر بحائط مائل فأسرع فتليت له هذه الآية فقال: ذلك القليل نطلب. {قُلْ مَن ذَا الذى يَعْصِمُكُمْ مّنَ الله} أي مما أراد الله إنزاله بكم {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً} في أنفسكم من قتل أو غيره {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} أي إطالة عمر في عافية وسلامة أي من يمنع الله من أن يرحمكم إن أراد بكم رحمة لما في العصمة من معنى المنع {وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} ناصراً {قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ} أي من يعوق عن نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يمنع وهم المنافقون {والقائلين لإخوانهم} في الظاهر من المسلمين {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي قربوا أنفسكم إلينا ودعوا محمداً وهي لغة أهل الحجاز فإنهم يسوون فيه بين الواحد والجماعة، وأما تميم فيقولون (هلم يا رجل) و(هلموا يا رجال) وهو صوت سمي به فعل متعد نحو (أحضر وقرّب) {وَلاَ يَأْتُونَ البأس} أي الحرب {إِلاَّ قَلِيلاً} إلا إتياناً قليلاً أي يحضرون ساعة رياء ويقفون قليلاً مقدار ما يرى شهودهم ثم ينصرفون {أَشِحَّةً} جمع شحيح وهو البخيل نصب على الحال من الضمير في {يَأْتُونَ} أي يأتون الحرب بخلاء {عَلَيْكُمْ} بالظفر والغنيمة {فَإِذَا جَاء الخوف} من قبل العدو أو منه عليه السلام {رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} في تلك الحالة {تَدورُ أَعْيُنُهُمْ} يميناً وشمالاً {كالذى يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت} كما ينظر المغشى عليه من معالجة سكرات الموت حذراً وخوفاً ولواذاً بك.
{فَإِذَا ذَهَبَ الخوف} زال ذلك الخوف وأمنوا وحيزت الغنائم {سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} خاطبوكم مخاطبة شديدة وآذوكم بالكلام. خطيب مسلق فصيح ورجل مسلاق مبالغ في الكلام أي يقولون: وفّروا قسمتنا فإنا قد شاهدناكم وقاتلنا معكم وبمكاننا غلبتم عدوكم {أَشِحَّةً عَلَى الخير} أي خاطبوكم أشحة على المال والغنيمة و{أَشِحَّةً} حال من فاعل {سَلَقُوكُم} {أوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُواْ} في الحقيقة بل بالألسنة {فَأَحْبَطَ الله أعمالهم} أبطل بإضمارهم الكفر ما أظهروه من الأعمال {وَكَانَ ذلك} إحباط أعمالهم {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً.


{يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ} أي لجبنهم يظنون أن الأحزاب لم ينهزموا ولم ينصرفوا مع أنهم قد انصرفوا {وَإِن يَأْتِ الأحزاب} كرة ثانية {يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِى الأعراب} البادون جمع البادي أي يتمنى المنافقون لجبنهم أنهم خارجون من المدينة إلى البادية حاصلون بين الأعراب ليأمنوا على أنفسهم ويعتزلوا مما فيه الخوف من القتال {يُسْئَلُونَ} كل قادم منهم من جانب المدينة {عَنْ أَنبَائِكُمْ} عن أخباركم وعما جرى عليكم {وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ} ولم يرجعوا إلى المدينة وكان قتال {مَّا قَاتَلُواْ إِلاَّ قَلِيلاً} رياء وسمعة.
{لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} بالضم حيث كان: عاصم أي قدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به كما تقول (في البيضة عشرون مناً حديداً) أي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. أو فيه خصلة من حقها أن يؤتسى بها حيث قاتل بنفسه {لّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} أي يخاف الله ويخاف اليوم الآخر أو يأمل ثواب الله ونعيم اليوم الآخر. قالوا {لِمَنْ} بدل من {لَكُمْ} وفيه ضعف لأنه لا يجوز البدل من ضمير المخاطب. وقيل: {لِمَنْ} يتعلق ب {حَسَنَةٌ} أي أسوة حسنة كائنة لمن كان {وَذَكَرَ الله كَثِيراً} أي في الخوف والرجاء والشدة والرخاء {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب} وعدهم الله أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه بقوله {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} إلى قوله {قَرِيبٌ} [البقرة: 214] فلما جاء الأحزاب واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد {قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} وعلموا أن الغلبة والنصرة قد وجبت لهم. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم في آخر تسع ليال أو عشر. فلما رأوهم قد أقبلوا للميعاد قالوا ذلك، وهذا إشارة إلى الخطب والبلاء {وَمَا زَادَهُمْ} ما رأوا من اجتماع الأحزاب عليهم ومجيئهم {إِلاَّ إِيمَانًا} بالله وبمواعيده {وَتَسْلِيماً} لقضائه وقدره.
{مّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عاهدوا الله عَلَيْهِ} أي فيما عاهدوه عليه فحذف الجار كما في المثل (صدقني سن بكره) أي صدقني في سن بكره بطرح الجار وإيصال الفعل. نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا وهم عثمان بن عفان وطلحة وسعد بن زيد وحمزة ومصعب وغيرهم {فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} أي مات شهيداً كحمزة ومصعب. وقضاء النحب صار عبارة عن الموت لأن كل حي من المحدثات لا بد له أن يموت فكأنه نذر لازم في رقبته فإذا مات فقد قضى نحبه أي نذره {وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ} الموت أي على الشهادة كعثمان وطلحة {وَمَا بَدَّلُواْ} العهد {تَبْدِيلاً} ولا غيروه لا المستشهد ولا من ينتظر الشهادة، وفيه تعريض لمن بدلوا من أهل النفاق ومرضى القلوب كما مر في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ كَانُواْ عاهدوا الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} {لّيَجْزِىَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ} بوفائهم بالعهد {وَيُعَذّبَ المنافقين إِن شَاء} إذا لم يتوبوا {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} إن تابوا {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً} بقبول التوبة {رَّحِيماً} بعفو الحوبة. جعل المنافقين كأنهم قصدوا عاقبة السوء وأرادوها بتبديلهم كما قصد الصادقون عاقبة الصدق بوفائهم، لأن كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب فكأنهما استويا في طلبها والسعي في تحصيلها.
{وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ} الأحزاب {بِغَيْظِهِمْ} حال أي مغيظين كقوله {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] {لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} ظفراً أي لم يظفروا بالمسلمين وسماه خيراً بزعمهم وهو حال أي غير ظافرين {وَكَفَى الله المؤمنين القتال} بالريح والملائكة {وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً} قادراً غالباً.
{وَأَنزَلَ الذين ظاهروهم} عاونوا الأحزاب {مّنْ أَهْلِ الكتاب} من بني قريظة {مِن صَيَاصِيهِمْ} من حصونهم الصيصية ما تحصن به. رُوي «أن جبريل عليه السلام أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صبيحة الليلة التي انهزم فيها الأحزاب ورجع المسلمون إلى المدينة ووضعوا سلاحهم، على فرسه الحيزوم والغبار على وجه الفرس وعلى السرج فقال: ما هذا يا جبريل؟ قال: من متابعة قريش. فقال: يا رسول الله إن الله يأمرك بالمسير إلى بني قريظة وأنا عامد إليهم فإن الله داقهم دق البيض على الصفا وإنهم لكم طعمة. فأذن في الناس أن من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلي العصر إلا في بني قريظة. فحاصروهم خمساً وعشرين ليلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تنزلون على حكمي فأبوا، فقال: على حكم سعد بن معاذ فرضوا به فقال سعد: حكمت فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم ونساؤهم، فكبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: لقد حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة ثم استنزلهم وخندق في سوق المدينة خندقاً وقدمهم فضرب أعناقهم وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة». وقيل: كانوا ستمائة مقاتل وسبعمائة أسير {وَقَذَفَ فِى قُلُوبِهِمُ الرعب} الخوف وبضم العين: شامي وعلي. ونصب {فَرِيقاً} بقوله {تَقْتُلُونَ} وهم الرجال {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً} وهم النساء والذراري {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وديارهم وَأَمولَهُمْ} أي المواشي والنقود والأمتعة.: «روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار وقال لهم إنكم في منازلكم»
{وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} بقصد القتال وهي مكة أو فارس والروم أو خيبر أو كل أرض تفتح إلى يوم القيامة {وَكَانَ الله على كُلّ شَئ قَدِيراً} قادراً.
{ياأيها النبى قُل لأزواجك إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} أي السعادة في الدنيا وكثرة الأموال {فَتَعَالَيْنَ} أصل تعال أن يقوله من في المكان المرتفع لمن في المكان المستوطيء، ثم كثر حتى استوى في استعماله الأمكنة، ومعنى {تعالين} أقبلن بإرادتكن واختياركن لأحد الأمرين، ولم يرد نهوضهن إليه بأنفسهن كقوله (قام يهددني). {أُمَتّعْكُنَّ} أعطكن متعة الطلاق وتستحب المتعة لكل مطلقة إلا المفوضة قبل الوطء {وَأُسَرّحْكُنَّ} وأطلقكن {سَرَاحاً جَمِيلاً} لا ضرار فيه أردن شيئاً من الدنيا من ثياب وزيادة نفقة وتغايرن، فغم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت فبدأ بعائشة رضي الله عنها وكانت أحبهن إليه فخيرها وقرأ عليها القرآن فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة فرؤي الفرح في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. ثم اختار جميعهن اختيارها. وروي أنه قال لعائشة: «إني ذاكر لك أمراً ولا عليك أن لا تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك» ثم قرأ عليها القرآن فقالت: أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة. وحكم التخيير في الطلاق أنه إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي أن تقع تطليقة بائنة، وإذا اختارت زوجها لم يقع شيء. وعن علي رضي الله عنه: إذا اختارت زوجها فواحدة رجعية وإن اختارت نفسها فواحدة بائنة {وَإِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الله وَرَسُولَهُ والدار الآخرة فَإِنَّ الله أَعَدَّ للمحسنات مِنكُنَّ} (من) للبيان لا للتبعيض. {أَجْراً عَظِيماً يانساء النبى مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بفاحشة} سيئة بليغة في القبح {مُّبَيّنَةٍ} ظاهر فحشها. من بيّن بمعنى تبين وبفتح الياء: مكي وأبو بكر. قيل: هي عصيانهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ونشوزهن. وقيل: الزنا والله عاصم رسوله من ذلك {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب} {يضاعف لَهَا العذاب} مكي وشامي {يضاعف} أبو عمرو ويزيد ويعقوب {ضِعْفَيْنِ} ضعفي عذاب غيرهن من النساء لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن، فزيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل وليس لأحد من النساء مثل فضل نساء النبي صلى الله عليه وسلم ولذا كان الذم للعاصي العالم أشد من العاصي الجاهل، لأن المعصية من العالم أقبح ولذا فضل حد الأحرار على العبيد ولا يرجم الكافر {وَكَانَ ذلك} أي تضعيف العذاب عليهن {عَلَى الله يَسِيراً} هيناً.

1 | 2 | 3